افتتاحيات الجريدة

لوزان.. مائة عام من الاحتلال والإنكار والمقاومة

-1-

   ما إن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبدأت الدول الكبرى المنتصرة في الحرب تتقاسم تركة الرجل المريض حتى تم التوصل إلى معاهدة سيفر في عام 1920م التي تتضمن إنشاء كيان كردي على أرض وطنه كردستان، خاصة بعد أن قام الاتحاد السوفياتي الوليد بفضح اتفاقية سايكس – بيكو والتي كان بضمنها روسيا القيصرية والتي كان شمال كردستان من نصيبها في الاتفاقية المذكورة، ولكن الصراعات الدولية على المصالح والظفر بمواقع استراتيجية والاستيلاء على الثروات لم تسمح لمعاهدة سيفر بالتطبيق، إذ بعد نجاح مصطفى كمال باشا (أتاتورك) بالاستيلاء على السلطة وإلغاء السلطنة العثمانية فقد حدث تقارب بين السوفييت وبين أتاتورك في مواجهة الدول الغربية وبخاصة بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول المنتصرة في الحرب، وقد استقوت حكومة أتاتورك بالسلطة السوفياتية التي رأت في الجمهورية التركية الحديثة نظاماً تقدمياً، وعلى ذلك فقد حدثت توازنات جديدة في العالم، ولم تجد معاهدة سيفر طريقها إلى التنفيذ وبدأت المؤتمرات الدولية المصاحبة لقرقعة السلاح إلى أن تم التوصل إلى اتفاقية لوزان بتاريخ 24/7/1923م.

   قام أتاتورك بجولات واسعة في كردستان وعد خلالها الكرد، عشائرهم ورجالاتهم، بأن تركيا هي بلاد الأتراك والكرد معاً، وأن للكرد ما للأتراك، وبأنه إذا قام الكرد بمساعدته في طرد اليونانيين وغيرهم فسيحصلون على حقوق أكثر مما في اتفاقية سيفر، وللأسف فقد استطاع أتاتورك اقناع الكثيرين من رؤساء العشائر الكردية بالوقوف معه في محاربة اليونانيين، وبالفعل فقد ساندوه على الانتصار على اليونانيين وغيرهم، وبعد أن تحقق له ما أراد قلب لهم ظهر المجن وانقلب على وعوده، وتمكن من السيطرة على كامل شمال كردستان، وألحقت بريطانيا جنوب كردستان بالعراق العربي، وألحق غرب كردستان بسوريا في ظل الاحتلال الفرنسي، وبقي شرق كردستان تحت سيطرة الاحتلال الإيراني، وهكذا أعيد احتلال كردستان وتقسيمها للمرة الثانية وفق اتفاقية سايكس – بيكو ومعاهدة لوزان الكارثية.

   إذا كانت معاهدة لوزان قد جاءت بسبب أطماع الدول الكبرى الاستعمارية لتقاسم العالم والاستيلاء على ثرواته، فإن هذا الأمر هو جانب واحد من المعادلة، وأما الجانب الآخر منها فتتمثل في وضع الشعب الكردي، وضعف العامل الذاتي في تطوره ونضاله، وبخاصة في عدم وحدته، وتركيبته العشائرية، وتمكن العدو من استغلال بعض العشائر ضد الأخرى، وعدم وجود التنظيم السياسي القادر على تنظيم الشعب وتوحيده وإفشال مؤامرات العدو، وبسبب تفشي الأمية بين الكرد على الرغم من خوضهم نضالات مريرة وتقديم تضحيات جسيمة، وبالرغم من وجود بعض النخب والشخصيات القيادية التي قدمت ما باستطاعتها من أجل حرية الشعب الكردي.

-2-

   ما أن استتب الأمر للدول التي اقتسمت كردستان حتى بدأت الهجوم على الشعب الكردي في كل أجزاء وطنه، وبدأت سياسات إنكار وجوده، ومع هذه السياسة اللئيمة بدأت سياسات التفريس والتتريك والتعريب، بل أن هذه الدول عملت مجتمعة وبتنسيق شامل على إبادة الشعب الكردي وجودياً وثقافياً، فادعى الأتراك أنه لا يوجد كرد في تركيا، وأن الموجودين هم أتراك الجبال الذين يستخدمون فيما بينهم لغة بدائية ومحلية لا تصلح أن تكون لغة علم وأدب، وهكذا كان الأمر في سوريا، فقد سموهم بالأكراد العرب السوريين، وأنهم من أصول عربية، ورسمت الحكومات والأنظمة المتعاقبة سياسات عنصرية، كان من بينها الإحصاء الاستثنائي الجائر الذي جرد بموجبه /300/ ألف مواطن كردي من الجنسية السورية، ومشروع الحزام العربي العنصري الذي تم بموجبه نزع الأراضي من الفلاحين والمزارعين الكرد بطول /375كم/ وعرض /15كم/ في المنطقة المحاذية للحدود مع تركيا، وجيء بدلاً منهم بمواطنين عرب من محافظتي الرقة وحلب وتم توطينهم في تلك المنطقة وغيرها الكثير من التدابير والإجراءات العنصرية الهادفة إلى إذابة الشعب الكردي في سوريا في بوتقة القومية العربية، ومثل ذلك جرى في كل من كردستان الجنوبية والشرقية.

   غير أنه وبالرغم من كل هذه السياسات العنصرية البغيضة لم يهدأ الشعب الكردي يوماً واحداً، فبدأ بتنظيم نفسه ونجو من العشرات من الثورات والانتفاضات التي لاتزال مشتعلة إلى يومنا هذا، أي بعد مرور /100/ عام على معاهدة لوزان المشؤومة، وقدم خلالها أكثر من مليون شهيد، وحاولت وتحاول الدول التي تقتسم كردستان إقناع دول العالم بأن هذه الثورات عبارة عن أمور داخلية تخص فقط بلدانها، وأنه لا يحق للمجتمع الدولي التدخل في شؤونها الداخلية وحتى مناقشتها، وأقامت حول ذلك سوراً صينياً محاولة بكل إمكانياتها حرمان الكرد من البعد الدولي لنضالهم.

   إذا كان احتلال كردستان وتقسيمها قد جرى بفعل مساهمة دولية، فإن إعادة البعد الدولي للقضية الكردية يعد مكسباً كبيراً لها تخرجها من الإطار الداخلي والمحلي، ويجعل حلها بتدخل دولي أمراً مشروعاً، بل مكسباً كبيراً، وفي هذا الإطار تكتسب حركة التحرر الوطني الكردية آفاقاً أوسع وأشمل بأبعادها الدولية والإقليمية والمحلية، إضافة إلى طابعها الوطني والديمقراطي والتقدمي.

   تاريخياً وواقعياً، وبناء على القوانين والمواثيق الدولية، ووفقاً لشرعة الأمم المتحدة فإن من حق الشعب الكردي أن ينتزع حقه في تقرير مصيره بنفسه، وبناء دولته المستقلة في وطنه كردستان، خاصة وأنه أكبر شعب في العالم محروم حتى الآن من إقامة كيانه الخاص به.

   إن الشرق الأوسط يرتكز على وجود /4/ قوميات، شعوب رئيسية، هي العربية – الفارسية – التركية – الكردية، علماً أن الشعب الكردي هو أقدم الشعوب الأصيلة في المنطقة، ويقيم على أرضه التاريخية، وأن قضيته هي قضية أرض وشعب.

   وبالرغم من كل ذلك فإن الشعب الكردي وحركته الوطنية لا يدعو إلى الانفصال، إنه يناضل من أجل انتزاع حقوقه القومية والديمقراطية في كل جزء ضمن نظام لامركزي سياسي، وذلك بالنضال المشترك بين مكونات كل جزء من أجل إقامة دول وطنية وديمقراطية تتمتع فيها كل مكونات هذه الدول بحقوقها الكاملة غير المنقوصة.

-3-

   كان حظ الشعب الكردي عاثراً إذ جرى تقسيم وطنه بين أربع دول هي الأكبر والأقوى في الشرق الأوسط، وهي تركيا وإيران والعراق وسوريا، وهذا ما جعل العقبة التي تواجه نضال الكرد كبيرة، وتؤخر انتصار نضال الشعب الكردي، لأن الجميع يعرف بأن هذه الدول تشكل القوة الضاربة في المنطقة، وأنها تتمتع بعلاقات جيدة مع الدول الكبرى التي تؤثر في السياسة الدولية، فتركيا إحدى دول حلف الناتو، وكانت إيران في وقت ما شرطي الولايات المتحدة في المنطقة والآن هي دولة إقليمية كبرى، وكان العراق وسوريا تتمتعان بعلاقات تحالف مع الاتحاد السوفياتي، كل ذلك عقد القضية الكردية أكثر فأكثر، وضخم من حجم تضحيات الشعب الكردي في كل أجزائه.

   لا يخفى على أحد أن هذه الدول كانت تتفق سراً وعلانية على توحيد مواقفها وجهودها ضد نضالات الشعب الكردي في أي جزء من أجزاء كردستان وعلى جميع المستويات، وكانت هناك اجتماعات رباعية وثلاثية وثنائية بين تلك الدول من أجل خنق نضال الشعب الكردي، وذلك على الرغم من خلافاتها الأخرى، وقد سادت عبارة (قد تختلف الدول التي تقتسم كردستان على كل شيء، ولكنها تتفق على كل شيء فيما يخص معاداة الشعب الكردي) ولازالت هذه العبارة سارية المفعول، والجميع يعرف بالاتفاق التركي – العراقي الذي يسمح للطرفين بملاحقة الكرد في الدولة الأخرى، ولازالت هذه الاتفاقية مستمرة إذ أن تركيا تحتل الآن مساحات شاسعة من أراضي جنوب كردستان (أراض عراقية) وتقيم عليها عشرات القواعد العسكرية بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، إلا أنها في الواقع تحتل مناطق من جنوب كردستان، ولن تنسحب منها لأن الجميع يعرف بأن تركيا تحارب جميع الكرد، وأنها تستخدم محاربة حزب العمال الكردستاني ذريعة لذلك، وهناك أيضاً اتفاقيات أضنة الأمنية بين النظامين السوري والتركي التي تسمح بتعقب القوى الكردية للطرفين في أراضي الدولة الأخرى، وهكذا الأمر بالنسبة لإيران التي تقوم بتعقب الكرد من شرق كردستان الموجودين في جنوب كردستان وقصفهم بالصواريخ البالستية والأسلحة الثقيلة.

-4-

   إذا كان العامل الدولي ومصالح الدول الكبرى، وعدم نضوج العامل الذاتي لنضال الشعب الكردي هما السببان الرئيسيان لاحتلال كردستان وتقسيمها، وبقاء الشعب الكردي محروماً من كافة حقوقه القومية، فإن عليه مواصلة نضاله على الأبعاد الثلاثة المحلية والإقليمية والدولية للقضية الكردية وكسب أصدقاء على جميع هذه المستويات، والعمل الجاد من أجل توفير العامل الذاتي لتحقيق الانتصار، وتنتصب المهمة المركزية في توفير العامل الذاتي في تحقيق وحدة نضال الشعب الكردي، ولكي نصل إلى هذه الحالة نرى أنه من الضروري الآن، وبعد مرور /100/ عام من اتفاقية لوزان المشؤومة عقد مؤتمر قومي كردي يضم جميع أطراف الحركة الكردستانية يكون من مهامه وضع استراتيجية قومية موحدة لأطراف الحركة، وبناء مرجعية كردية لأطراف الأجزاء الأربعة ترتكز على:

1- تجريم الاقتتال الكردي – الكردي.

2- حل الخلافات بين القوى الكردستانية بالحوار السلمي الديمقراطي.

3- عدم الاعتماد على الأنظمة الغاصبة لكردستان، وعدم قيام أي طرف بإقامة علاقات مع تلك الأنظمة على حساب الشعب الكردي في ذلك الجزء.

4- إقامة العلاقات بين جميع الأطراف على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للأطراف الأخرى.

5- احترام خصوصية كل جزء من أجزاء كردستان.

6- اطلاق الحوار الكردي – الكردي باعتباره المدخل الرئيسي إلى التفاهم والتوافق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى