آراء

كركوك مدينة عراقية بهوية كردستانية

   أكد الرئيس الراحل مام جلال الطالباني مراراً على عبارة “كركوك مدينة عراقية بهوية كردستانية” كما أكد أيضاً على عبارة “كركوك قدس كردستان” وكان هذا الكلام يأتي دائماً للتأكيد على الهوية الكردية الأصيلة لكركوك، وأكد مام جلال على ذلك بالأدلة والإثباتات التاريخية منذ فجر التاريخ، وأكد الزعيم مصطفى البارزاني على ذلك أيضاً بعبارة “كركوك قلب كردستان”، ولم يأتِ كل هذا من فراغ، بل جاء عبر الصراع المستمر على كركوك بين الكرد وبين جميع الحكومات والأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق وبين الكرد على هوية كركوك، وكذلك للرد على ادعاءات الطورانية التركية بأحقيتها في كركوك.

   كركوك مدينة كردية منذ تأسيسها، ولم يسكن مدينتها ولا أريافها أحد قبل الكرد، وقد أكدت كردية كركوك الوثائق والملفات في دائرة المعارف البريطانية إلى جانب وثائق دائرة المعارف الروسية والألمانية التي بحثت حول هويتها إلى جانب الكثير من علماء التاريخ ليؤكدوا على صحة نسبها خصوصاً وقد أشار إلى ذلك الكثير من المؤرخين والمستشرقين والرحالة الذين أكدوا على كردية كركوك منذ آلاف السنين.

   يقول السيد مظفر مزوري في مقالة له نشر عام 2018 “من المعروف تاريخياً أن الخوريين الكرد هم الذين كانوا يقطنون كركوك في الألفين الأول والثاني ق.م وكانت كركوك في ذلك الوقت تعرف باسمين (آرابخا واليلاني) أي مدينة الآلهة، والخوريون يؤلفون شعباً انحدر منذ نهاية الألف الثالث ق.م من الجبال الشمالية في كردستان، ولعبوا دوراً مهماً في تاريخ الشرق الأدنى وسياسته وثقافته في الألف الثاني ق.م وتمكنت بعثة التنقيب الدانماركية في مدينة دوكان ولاسيما في تل شمشارة قرب مضيق دوكان تحديداً من اكتشاف آثار خورية يعود زمنها إلى الألف الثاني ق.م من بينها حوض آجرة من النوع المستخدم في نوزي، ونوزي هو الاسم الذي أطلقه الخوريون على كركوك، والتي اكتشفت فيها لوحات مدونة باللغة الأكادية تتضمن معلومات تاريخية عن الخوريين وعن حياتهم الاجتماعية والاقتصادية”.

   ويقول الكاتب مزوري أيضاً “عدد الألواح التي اكتشفت في هذه المنطقة وبالتحديد منطقة تل يورغان تبة يقدر بخمسة آلاف لوح، وهذا يعني أن هناك عمق حضاري كبير للخوريين الذين حكموا بلاد آشور على مدى قرن من الزمن وهم الذين شيدوا دون ريب عدداً من توابع كركوك وأهمها طوزخورماتو التي تحمل اسم الخوريين إلى يومنا هذا، اسم المدينة الأصلي خورماتو المشتق من كلمتين وهما (خور) أي الخوريين، وكلمة (ماتو) التي تعني المدينة في اللغة الأكادية، ففي ذلك الوقت امتلك الخوريون كامل كردستان (إقليم كردستان الحالي)، وعلى هذا الأساس كان يطلق على المملكة الخورية اسم ميتاني أيضاً، فالميتانيون كنية مشتقة كانت تطلق على الآريين”.

   إذا كان الاسم القديم لكركوك هو آرابخا الخورية فإنه وخلال الحقبة الفرثية ذكر بطليموس اسم كركورا والتي يعتقد أنها تشير إلى كركوك، أو إلى موقع (بابا كَركَر) الذي لا ينطفئ نيرانه والواقع بالقرب من مدينة كركوك، وقد بنيت كركوك في الأصل كقلعة على تل مدور ذي أربعة زوايا، وتضم الأماكن الواقعة بين جبل زاغروس، ونهري الزاب الصغير ودجلة، وسلسلة جبال حمرين، ويعود تاريخ مدينة كركوك إلى /1600/ سنة قبل الميلاد.

   وفي العصر الحديث كانت كركوك جزءاً من ولاية الموصل التي كانت تضم أيضاً هولير ودهوك والسليمانية وخانقين وشنكَال وتلعفر وزاخو وغيرها، وأكدت جميع الإحصائيات التي أجريت في كركوك وبما في ذلك إحصائية عام 1957م، وكذلك كتب المؤرخين والمستشرقين والآثار الموجودة فيها تؤكد على أن الكرد يشكلون أغلبية سكان كركوك، وكان يسكن فيها بعض العرب والتركمان والكلدان واليهود إلى جانب الكرد الذين كانوا يشكلون دائماً أغلبية السكان، وحتى أن العشائر العربية التي سكنت في كركوك مثل العبيد والشمر جاءوا من خارج المنطقة طلباً للماء والمراعي، وطلبت الإذن من الكرد للسكن فيها، وقد ضمت ولاية الموصل بما في ذلك كركوك وباقي المناطق الكردستانية بعد الحرب العالمية الأولى إلى العراق العربي من قبل البريطانيين الذين كانوا يحتلون العراق العربي، وقد لعب اكتشاف البترول بكميات كبيرة في ولاية الموصل الدور الرئيسي في ذلك.

   تعرضت كركوك على الدوام منذ إلحاقها بالعراق العربي لسياسات التغيير الديموغرافي، سكانياً وسياسياً وثقافياً، وفي هذا المجال يذكر السيد مظفر مزوري “عمليات تعريب هذه المدينة الكردستانية لم تبدأ عند تسلم الرئيس العراقي صدام حسين الحكم سنة 1968م، لكنها كانت مبرمجة قبل ذلك الوقت، وازدادت منهجيتها أيضاً بشكل أوسع أيام حكم صدام حسين، حيث قامت السلطات بطرد /250.000/ كردي من كركوك، واستقدمت عرباً من جنوب العراق وأسكنوهم في المناطق الكردية بكركوك بشكل تعسفي لا مثيل له في التاريخ المعاصر، وكانت السلطات تقوم باعتقال العوائل الكردية التي ترفض ترك ديارها، وتزج بهم في السجون المظلمة ثم القيام بإعدام الرجال أمام نسائهم وأطفالهم، وفي المقابل كانت العوائل العربية التي استقدمت من جنوب العراق إلى كركوك كانوا يقومون بالاستيلاء على منازل وممتلكات الكرد فضلاً عن قيام الدولة بإعطائهم منح مالية كبيرة كانت تقدر بين عشرة آلاف وعشرين ألف دينار عراقي وكان ذلك المبلغ ذو قيمة كبيرة في ذلك الوقت”. وهكذا جرى تمليك هؤلاء المستقدمين من عرب الجنوب أملاك الكرد عنوة، وجرى تسجيلهم في السجلات المدنية لكركوك، وهكذا، وفي إطار سياسة ممنهجة تم الضغط على الكرد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، نزعت أملاكهم وطردوا من الوظائف المدنية والوظائف الفنية في حقول النفط بهدف تغيير الهوية القومية الكردية لكركوك، وخفض نسبة تواجدهم فيها، نعم، هذا هو الذي قام به حكام بغداد الدمويون في كركوك وكفري وجمجمال وطوزخورماتو وغيرها.

   ليست كركوك هي نقطة الخلاف الوحيدة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، بل هناك العديد من المناطق المستقطعة الأخرى في الموصل وخانقين وشنكال وتلعفر وغيرها، وهي باقية الآن تحت مسمى (المناطق المتنازع عليها)، وكانت المادة /140/ من الدستور العراقي الجديد تنص على إيجاد حل لهذه المناطق في فترة محددة، غير أن الشوفينيين في الحكومات العراقية بما يملكونه من أغلبية في البرلمان المركزي قد سوفوا وأخروا عن عمد البت في هذه المسألة، ويدعون الآن بأن الفترة المحددة قد انصرمت، ولم يعد هناك مجال للبت فيها من جديد، وبذلك فإن مسألة الخلاف حول المناطق المتنازع عليها، وفي مقدمتها الخلاف حول كركوك لازالت تشكل إحدى الخلافات الأساسية بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وسيستمر هذا الخلاف بجميع الأشكال إلى أن تعود كركوك مدينة كردستانية، ذلك أن حقوق الشعوب والأوطان لا تتجزأ، ولا ترتبط بوقت محدد في مادة دستورية يمكن التلاعب بها.

   ليس النظام العراقي وحده الذي يصر على إلغاء الهوية القومية الكردية لكركوك وضمها إلى العراق العربي، وإنما تشاركه في ذلك جميع الدول التي تقتسم كردستان (تركيا، إيران، سوريا) ذلك لأنهم بما لديهم فرحون، فهي جميعها تحتل كردستان، تركيا تتدخل بشكل مباشر، وتدعم بقوة وبجميع الأشكال التركمان وتحرضهم على عدم قبول كردستانية كركوك، بل أنها وانطلاقاً من ميثاقها الملي العنصري تعتبر الموصل وكركوك أراض عثمانية وبالتالي تركية، ولازالت تخصص في موازناتها السنوية ليرة تركية واحدة لولاية الموصل كرمزية قومية يجب تحقيقها، وكل من إيران وسوريا تعتبران الهوية الكردية لكركوك خطراً عليهما لأنها تعزز كفاح الشعب الكردي في عموم أجزاء كردستان.

   إن الأحداث الأخيرة التي جرت في كركوك، وذهب ضحيتها عدد من المواطنين الكرد، لم تأتِ من فراغ، وإنما هي استمرار للأعمال الإجرامية التي تقوم بها الدول التي تقتسم كردستان والجهات المرتبطة بها، فقد جرت هذه الأحداث بنتيجة تحريض تركيا للقوى التركمانية المرتبطة بها، وكذلك الجهات الشوفينية في بغداد وطهران، كما أن تزامن ما جرى في كركوك مع ما جرى في شمال وشرق دير الزور، أي مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية من فتنة واشتركت فيها ميليشيات إيران والنظام السوري لم يأتِ أيضاً من فراغ، وإنما هي أيضاً عبارة عن عملية منسقة ومبرمجة تستهدف الشعب الكردي، وموجهة إلى انتصارات قوات سوريا الديمقراطية، وإلى وحدة مكونات شمال وشرق سوريا، والهجمات التركية المتزامنة معها والتي لازالت مستمرة على مناطق منبج وتل رفعت وعين عيسى وتل تمر وزركان، يدل بشكل قاطع على أن الأيادي التي تقف وراء كل ذلك هي الأيادي نفسها التي تحارب حركة حرية الشعب الكردي، أي أنها تركيا، إيران، العراق، سوريا، التي تقتسم كردستان، وتقف مجتمعة وفرادى أمام الكفاح الثوري لشعب كردستان.

محمد صالح عبدو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى