رأي.. في متطلبات تطوير نضال الشعب الكردي في سوريا في المرحلة القادمة

بعد سقوط نظام حزب البعث الاستبدادي الشمولي، وسيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها على السلطة في دمشق، وما تلا ذلك من تطورات، مثل مؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري اللذان كانا من لون واحد، لون (جبهة النصرة) والمجاميع التي تلتف حولها، وكذلك المجازر الشنيعة التي ارتكبتها ضد الطائفة العلوية في الساحل وحمص وحماة، وتطورات الأوضاع في جنوب سوريا، والاعتداءات على المكون الدرزي، والصراع التركي – الإسرائيلي على مستقبل سوريا إضافة إلى المواقف الدولية والعربية.
وفي ظل قرار الإدارة الانتقالية التي يقودها أحمد الشرع بعدم التصادم مع قوات سوريا الديمقراطية، ومن ثم اتفاق الجنرال مظلوم عبدي – الرئيس أحمد الشرع، والاتفاق حول سد تشرين، وكذلك اتفاق الشيخ مقصود والأشرفية، تكون سوريا قد دخلت مرحلة جديدة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، محلياً وإقليمياً وعربياً ودولياً، مرحلة يلفها الغموض والتناقضات الحادة والصراع المتعدد الأوجه والأشكال حول مستقبلها.
في هذه الظروف الدقيقة والصعبة انعقد في مدينة قامشلو بتاريخ 26/4/2025 مؤتمر وحدة الصف والموقف الكردي بحضور كردستاني لافت، وخرج المؤتمر بوثيقة هامة بشقيها الوطني السوري والقومي الكردي، أكدت بوضوح على طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي لسوريا المستقبل، أي لسوريا التي نريد، والتي نعتقد أنها تشكل رؤية وطنية سورية جامعة يمكن أن تلتف حولها كافة المكونات السورية وقواها السياسية والاجتماعية، وحددت من جهة أخرى الحقوق القومية والديمقراطية التي يجب أن يتمتع بها الشعب الكردي، وبذلك يمكن بناء موقف استراتيجي لنضال عموم الشعب السوري على هذه الوثيقة عبر الحوار عليها.
مع هذه التطورات المهمة سورياً وكردياً، يدخل نضال الشعب السوري عموماً والشعب الكردي خصوصاً مرحلة جديدة يجب تدقيقها، وإعادة النظر في جميع البرامج السابقة سورياً وكردياً، وتطويرها إلى مستوى الحقائق والوقائع الموجودة على الأرض، والتي يجب أن تتركز حول بناء سوريا ديمقراطية تعددية لامركزية سياسية (فيدرالية) وبحيث لا تكون الهوية القومية الكردية تهمة والهوية القومية العربية امتيازاً، وأرى أن هذا التطور يجب أن يشمل إعادة النظر في الرؤية حول الدولة السورية الجديدة، وكذلك إعادة النظر في البرامج السياسية للحركة السياسية الكردية.
أولاً- في طبيعة النظام السياسي في سوريا:
في هذا الإطار، وفي التوجه الوطني السوري العام والكردي الخاص أرى أن اعتماد شكل ومضمون (الدولة الوطنية الديمقراطية متعددة المكونات) يعبّر بشكل دقيق وصادق عن طموحات الشعب السوري بكافة مكوناته، وأرى أن النضال العام سورياً وكردياً يجب أن يتركز حول هذه التسمية، ومن الضروري التركيز على استخدامها ليس فقط في الأدبيات الحزبية، وإنما جعلها شعاراً مشتركاً لنضال كافة القوى الوطنية والديمقراطية السورية بمختلف توجهاتها السياسية والفكرية كحل دائم لكيان الدولة السورية، حيث تعتبر الدولة الوطنية الديمقراطية متعددة القوميات نموذجاً حديثاً في الفكر السياسي المعاصر يسعى إلى التوفيق بين ضرورات بناء دولة موحدة ذات سيادة، وضمان حقوق المكونات القومية والدينية والثقافية في إطار من الديمقراطية والمواطنة المتساوية، ويكتسب هذا المفهوم والشعار في الحالة السورية أهمية مضاعفة نتيجة التعدد الهوياتي العميق والصراع السياسي – الأهلي الذي شمل البلاد منذ عام 2011 بشكل خاص وما قبله بشكل عام.
إن الدولة الوطنية الديمقراطية متعددة المكونات تحقق من جهة بناء دولة على أساس رابطة المواطنة، لا العصبيات الأولية (القومية، الدين، المذهب) وعلى أساس الانتماء المدني والولاء للقانون والدستور، وليس على أسس تشكيلات ما قبل الدولة، وتضمن مشاركة الشعب في اتخاذ القرار، ويقوم على التعددية السياسية، تداول السلطة سلمياً واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ومن جهة ثالثة يضمن مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية متعددة المكونات الاعتراف الواقعي والحقوقي بوجود تعددية قومية، دينية، مذهبية وثقافية داخل المجتمع من خلال ضمان الحقوق الجماعية والفردية لهذه المكونات في إطار دستور توافقي ديمقراطي وبمواد فوق دستورية.
يعد الانتقال نحو دولة ديمقراطية متعددة المكونات في سوريا شرطاً أساسياً لإعادة بناء العقد الاجتماعي السوري، وضمان وحدة البلاد وسلامها المستدام لأن مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية متعددة المكونات يقوم على أسس المواطنة المتساوية، اللامركزية السياسية والإدارية، الاعتراف بالتعدد الثقافي واللغوي، ويضمن ذلك في دستور توافقي بما يسمح باستخدام اللغات القومية إلى جانب اللغة الرسمية، كما يضمن أيضاً الحقوق الجماعية من خلال حماية خصوصية المكونات القومية والدينية ضمن الإطار الوطني العام، ويضمن فصل الدين عن الدولة لضمان حيادية الدولة تجاه جميع المعتقدات الدينية، وتعزيز الانتماء المدني.
ثانياً: بالتزامن مع هذه الرؤية تجاه الشكل والمضمون الجديد للدولة السورية (الدولة الوطنية الديمقراطية متعددة المكونات)، فإن الضرورة تقضي بإعادة النظر في برامج جميع أطراف الحركة السياسية الكردية في سوريا، وتطويرها بما يتناسب مع حقيقة الوجود الكردي وحجمه والظروف التي تحيط بنضاله، وأعتقد بأن الظروف الدولية والإقليمية والمحلية الجديدة تستوجب هذه المراجعة.
كانت برامج الأحزاب الكردية والتحالفات العديدة التي أقامتها تلك الأحزاب تركز على أن المناطق الكردية في سوريا هي الجزيرة وكوباني وعفرين، وتعتبر تواجد الكرد في المناطق الأخرى من سوريا مناطق سكنى فقط، غير أنه في المرحلة الجديدة من تطور سوريا تتغير كافة المعادلات التي كونتها الأنظمة القمعية والاستبدادية، ومن بينها المواقف السياسية لمعظم أبناء الشعب السوري، ونظرتهم إلى سوريا الجديدة، سوريا التي نريد، وفي ظل هذه الأجواء الجديدة، فإنني أعتقد بضرورة تطوير الطرح الكردي بالتأكيد على جملة من التوجهات الجديدة منها:
1- إن وجود الشعب الكردي في سوريا ليس وجوداً طارئاً، وإنما وجد مع تشكل الدولة السورية الحالية إذ بموجب معاهدة لوزان عام 1923 في أعقاب الحرب العالمية الأولى في إطار تفكك الدولة العثمانية وتقسيم تركة الرجل المريض، ألحق غرب كردستان (روجآفا) بالدولة السورية حديثة النشأة، والتي لم تكن موجودة قبل ذلك، وبذلك فإن الشعب الكردي ومعه كافة المكونات القومية والدينية والمذهبية في سوريا يعتبر شريكاً في تأسيس الدولة السورية الحالية، وأن القضية الكردية في سوريا هي قضية أرض وشعب، وبالتالي فإن الجزيرة وكوباني وعفرين ليست هي فقط المناطق الكردية في سوريا، وأن المناطق الأخرى ليست مناطق سكنى فقط، بمعنى أن روجآفاي كردستان أوسع من المناطق الثلاث المذكورة، فالكرد ينتشرون على كامل الجغرافيا السورية وبكثافة، فنصف العائلات الدمشقية من أصول كردية، ولا يقل عددهم في مدينة حلب عن /800/ ألف كردي، وهناك مراكز مدن وقرى كردية وعشائر كردية بكثرة في محافظات اللاذقية وإدلب، وتصل نسبة الكرد في مدينة حماة لوحدها إلى 65% من عدد سكانها، إضافة إلى العشائر الكردية المنتشرة في ريفها، كما يتوزع الكرد في حمص ودرعا إضافة إلى منطقة الشهباء في محافظة حلب مثل جرابلس ومنبج وإعزاز والباب والعديد من القرى المنتشرة حول حلب مثل تل عران وتل حاصل ودير حافر وغيرها الكثير، وقد أضاع قسم منهم اللغة الكردية إلا أنهم يعترفون بأصولهم القومية ويفتخرون بها، وقد تجاهلت جميع الحكومات والأنظمة المتعاقبة على الحكم في سوريا حقيقة وجود الشعب الكردي في سوريا، وتعاملت معها كمسألة أمنية يجب إنهاؤها عبر المشاريع العنصرية والإجراءات والتدابير الاستثنائية، وبسبب عدم وجود إحصائيات رسمية يمكن تقدير عدد الكرد في سوريا بما لا يقل عن /8/ ملايين وهو العدد المكافئ لعدد العرب السنة في سوريا.
2- إن هذه الرؤية، وهذه الوقائع والحقائق تستدعي طرح القضية الكردية على مستوى كامل الجغرافيا السورية، وليس فقط على مستوى الجزيرة وكوباني وعفرين، وبمفهوم الفيدرالية الجغرافية في إطار سوريا ديمقراطية تعددية، سوريا لجميع السوريين، ومحاربة أي توجه انفصالي، أي توجه لتقسيم سوريا، بل الدفاع عن حدودها الدولية المعروفة، وأن دمشق هي عاصمة الجميع، وللتاريخ فإن أي حزب سياسي كردي في سوريا لم يطرح أي توجه انفصالي.
3- إن مهمة أي وفد كردي يتفاوض مع السلطة في دمشق يجب ألا ينحصر فقط في طرح المطالب القومية الكردية فحسب، وإنما يجب أن ينطلق من مبدأ الشراكة في الوطن، الشراكة في كل شيء، الشراكة التي يجب أن يحميها الدستور وبمواد فوق دستورية لا تتأثر بالهزات السياسية في البلاد، ولا يخضع لإرادة الحاكم أياً كان، فأية سلطة هي مؤقتة، وأما الشراكة في الوطن فهي دائمة تستند إلى حقائق الوجود التاريخي والحق التاريخي، بل إلى مبدأ المواطنة التي لا يحق لأية سلطة التنكر لها، إضافة إلى أن مبدأ الشراكة يعطي الحق ليس فقط للشعب الكردي، وإنما لجميع المكونات السورية الحق في اختيار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وانتزاع حقوقها القومية والديمقراطية بكل الأشكال والأساليب المشروعة.
إن الانطلاق من مبدأ الشراكة في الوطن السوري يتمتع بالعديد من المزايا الجوهرية التي تحمي الحقوق القومية للشعب الكردي وحقوق كافة المكونات السورية، ومنها:
أ- إن التغيير في السلطات الحاكمة سواء بنتيجة الانقلابات أو لأي سبب كان لا يمكّن من الانقلاب على حقوق الشركاء في الوطن، لأنها تكون محمية في الدستور وفي الأطر الدولية المختلفة التي تضفي الشرعية على هذه الشراكة، إضافة إلى أن إرادة السلطة الحاكمة أياً كانت ليست هي مصدر الشرعية، بل أن مصدر الشرعية هي إرادة الشعب السوري بكل مكوناته، عبر إرادتها الحرة المتمثلة في الشراكة الوطنية التي ترسخ قاعدة أن جميع السوريين شركاء وليسوا رعية.
ب- إن مفهوم الشراكة في الوطن يعني الاعتراف بالتعددية وبالتنوع، واحترام المكونات الأخرى، ورفض التفرد باسم أي شريك (مكون) مهما كان حجمه.
ج- إن مفهوم الشراكة في الوطن يتيح لكل المكونات السورية التضامن وتقديم الدعم لأجزائها الأخرى، أي أنه يتيح التضامن مع القضايا والشعوب العربية والقضايا والشعوب الكردية، والقضايا والشعوب السريانية…الخ.
د- إن طرح مفهوم الشراكة في الوطن ينسجم مع ظروف العصر الذي نعيش فيه، حيث تعيش معظم دول العالم المتقدم حالة التعددية والتشاركية في الحكم بين مكوناتها، ويتم الاعتراف بجميع المكونات القومية والدينية التي تعيش في إطار تلك الدول، وتحصل على حقوقها، وتتمتع بخصوصياتها في الإطار الوطني العام، ويتطابق مع مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية متعددة المكونات.
هـ- في ظل مفهوم الشراكة في الوطن ستتشكل قوى وأحزاب سياسية واجتماعية وطنية عامة، عابرة لحدود المكونات القومية والدينية، أي أحزاب على مستوى الوطن السوري، وتكون هذه الحالة صحيحة لأنها ستدافع عن مصالح الشعب السوري بجميع مكوناته.
ومن أجل تعزيز هذا التوجه وإنجاحه فإنه من الضروري:
1- التواصل والحوار مع القوى السياسية والاجتماعية، وكافة المكونات السورية من أجل توحيد المواقف.
2- التواصل والحوار مع الدول العربية الرئيسية وتحقيق تفاهمات معها تؤكد بأن الكرد ضد تقسيم سوريا.
3- العمل والتوافق مع المجتمع الدولي وكسب أصدقاء حقيقيين والحصول على دعمهم.
*محمد صالح عبدو