افتتاحيات الجريدة

الشرق الأوسط قضاياه ومصائره

افتتاحية العدد 460

-1-

   ما اتفق على تسميته بالشرق الأوسط منطقة حيوية بالنسبة للعالم كله، بل أنه قلب العالم، ويتميز بتنوعه القومي والديني والمذهبي، كما تتواجد فيه ثروات اقتصادية ضخمة بالإضافة إلى موقعه الاستراتيجي سواء بممراته المائية أو البرية أو الجوية ومساحته الواسعة، ولهذا فقد كان على الدوام محل أطماع جميع الغزاة والمستعمرين، ويرتكز الشرق الأوسط على أربعة أقوام رئيسية هم العرب والكرد والترك والفرس، وهناك قوميات ومكونات اجتماعية ودينية عديدة أخرى تعيش في المنطقة منذ القدم، وإن كان الدين الإسلامي هو الأكثر انتشاراً.

   تشكلت الخارطة السياسية الحالية للشرق الأوسط بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبخاصة بعد معاهدة لوزان عام 1923م واتفاقية سايكس – بيكو عام 1916م، وهي خارطة تشكلت وفق أهواء الدول الاستعمارية ومصالحها في تقسيم المنطقة فيما بينها والاستيلاء على ثرواتها، ولم تتشكل قطعاً وفق الواقع الجغرافي والوجود الأصيل للشعوب الموجودة منذ أقدم الأزمنة، ولذلك سادت القوميات العربية والفارسية والتركية، ولم ينعم الشعب الكردي بأي من حقوقه القومية، بما في ذلك تشكيل دولته الخاصة به، بل قسمت كردستان بين أربع دول هي تركيا، إيران، العراق وسوريا، وعملت تلك الدول على إنكار وجود الشعب الكردي الذي يبلغ تعداده أكثر من /70/ مليوناً في مناطقه الأساسية والمهاجر، وعملت على إذابته في بوتقة القوميات العربية والتركية والفارسية، وبالطبع لم يستكن الشعب الكردي لهذا الواقع، وقاوم كثيراً وفجر العديد من الثورات والانتفاضات التي لازالت مستمرة حتى الآن، وقدم خلالها مئات الآلاف من الشهداء وأنهار الدماء، وبنفس الوقت فقد قسمت تلك الاتفاقيات المنطقة العربية، وهناك الآن نحو /22/ دولة عربية تفصلها الحدود المصطنعة، وهذه الدول أيضاً دول مصطنعة لم يكن لها وجود تاريخي بحدودها الحالية، وقد تكون مصر هي الدولة الوحيدة القديمة منذ أيام الفراعنة منذ ما قبل الميلاد، وخلال هذه الفترة أيضاً نشأت دول جديدة بما في ذلك تركيا الحالية التي تشكلت حدودها بعد معاهدة لوزان 1923، وضمت إيران شعوباً أخرى مثل الكرد والعرب والبلوش والآذريين (بما في ذلك أوطانهم المقسمة).

   بسبب هذه النشأة غير الطبيعية لدول الشرق الأوسط، تكتنفها الآن قضايا ومشاكل كثيرة، هي في الأساس قضايا شعوب ومكونات دينية ومذهبية تشكلت عبر التاريخ، ولعل هذا هو السبب الرئيس لعدم استقرار الشرق الأوسط وتعقد مشاكله، وعدم امتلاكه لمصائره، وبهذا المعنى فليست هناك دولة واحدة من دول الشرق الأوسط تتمتع بالاستقلال الحقيقي والسيادة الحقيقية، معظم دوله وأنظمته الحاكمة هي تابعة تعتمد في استمرارها على دول أخرى من خارج المنطقة، وادعاءاتها بالديمقراطية والمساواة بين المواطنين ليس لها أي أساس واقعي.

-2-

   جماعة الأخوان المسلمين وغيرها من التيارات الإسلامية تحدد أهدافها بالعمل من أجل توحيد العالم الإسلامي وبناء الأمة الإسلامية، ولكنها في الوقت نفسه تتجاهل التشكيل المتعدد للمسلمين بمعنى أن هناك العديد من الشعوب والأقوام تدين بالدين الإسلامي، ولذلك نراها تعادي على سبيل المثال حركة التحرر الوطني الكردية، وتعتبرها تجزئة للمسلمين، المسلمون في تركيا يقولون كلنا مسلمون، ولكن كلنا أتراك، وكذلك الفرس والعرب، والحركة القومية العربية أيضاً تعادي حركات التحرر القومية الأخرى للكرد والأمازيغ والسريان وغيرهم، إنها تعمل من أجل تذويب جميع هذه الشعوب والأقوام في بوتقة القومية العربية، وللأسف الشديد فإن البرامج السياسية لكل الأحزاب والقوى السياسية العربية بما في ذلك الأحزاب اليسارية والديمقراطية واليمينية باستثناء الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوداني، وحزب العمل الشيوعي في سوريا لا تتضمن أي اعتراف بالتعددية القومية.

   منذ أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحالي طرح مشروعان للمنطقة، هما الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد، ومعلوم أن هذين المشروعين صدرا من الولايات المتحدة، وقد أحدث نقاشاً واسعاً عارضه معظم القوى والأحزاب السياسية العربية التي اعتبرت ذلك تآمراً على العرب ويؤدي إلى تقسيم ما هو مقسم، ومع الأسف فإنها لم تطرح رؤية واقعية كبديل لهذين المشروعين، ومعلوم أن هذين المشروعين مستمران بطرق مختلفة، بل أن جميع المشاريع مستمرة ويعمل أصحابها لتحقيقها.

   وفي أي تحليل لوضع الشرق الأوسط الآن لا يمكن اغفال المشروعين الإيراني والتركي وخطورتهما على المنطقة، وهما مشروعان متشابهان في طبيعتهما وفي النتائج المترتبة عليهما بكونهما مشروعين يهدفان إلى التمدد، الأول يعتمد على تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية بصيغتها الشيعية، والثاني يعتمد على العثمانية الجديدة، واستعادة السيطرة على المنطقة باعتبار أنها كانت جزءاً من السلطنة العثمانية في يوم من الأيام، ويشكل هذان المشروعان أكبر المخاطر على المنطقة وشعوبها.

   هناك أيضاً مشروع لحزب العمال الكردستاني بعنوان (كونفيدرالية الشرق الأوسط) وشرق أوسط ديمقراطي، وهذا المشروع قد يكون في الواقع لمصلحة جميع شعوب المنطقة، ولكنه يحتاج إلى حوار واسع وقوة كبيرة لتحديد أسسه وبالتالي العمل الجدي من أجله.

   لماذا تستمر قضايا الشرق الأوسط ومصائره في التعقد، ولا يتم إيجاد حلول مناسبة لها؟ هذا سؤال مهم، وللإجابة عليه فإنه هناك حاجة إلى حوار واسع بين جميع أطراف حركة التحرر الوطني الديمقراطية في المنطقة، خاصة أن جميع أنظمة الشرق تحارب مثل هذا الحوار الجدي.

-3-

   إن من أكثر القضايا إلحاحاً في الشرق الأوسط هو حل القضية الكردية في الأجزاء الأربعة من كردستان، وانتزاع الحقوق القومية والديمقراطية للشعب الكردي، وحل القضية الفلسطينية العادلة وفق حل الدولتين الذي يتضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي الرابع من حزيران لعام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية باعتبارهما قضيتان مركزيتان في المنطقة، ولن ينعم الشرق الأوسط بالأمن والاستقرار دون حلهما، وكذلك قضايا الشعوب الأخرى كالأمازيغ والبلوش وغيرهما، وبطبيعة الحال فإن هذا لا يعني تجاهل القضايا الأخرى للمنطقة، وهي قضايا رئيسية، وفي مقدمتها قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، بما في ذلك حرية المرأة كقضية رئيسية وقضايا التخلف والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ووضع حد لما يسمى بالصراع السني – الشيعي الذي هو بالأساس قضية سياسية مغلفة بتوجهات دينية، وكذلك حرية الأديان وحرية الأحزاب، ومحاربة الاستبداد والحكومات الثيوقراطية، ويقف النضال من أجل أن تتمتع شعوب وبلدان الشرق الأوسط بثمار خيراتها واستكمال تحررها السياسي باستقلالها الاقتصادي وبعدالة توزيع الثروة بين المواطنين ومحاربة الفقر ونشر التعليم ضمن القائمة الرئيسية لمنطقة الشرق الأوسط، يضاف إليها الانتقال السلمي للسلطة كإحدى قضايا الديمقراطية الرئيسية ومحاربة الإرهاب الذي يستفيد من الجوانب السلبية لأوضاع المنطقة، كما يجب الوقوف بجدية في وجه المشروعين التركي (العثمانية الجديدة) والإيراني باعتبارهما يشكلان خطراً على جميع شعوب المنطقة، ومصدراً لزعزعة الأمن والاستقرار فيها.

-4-

   إن شرق أوسطاً جديداً، وشرق أوسطاً كبيراً (مع ملاحظة أننا لم نستعمل /ال/ التعريف تمييزاً لهما عن الشرق الأوسط الجديد والكبير الأمريكي) هو بالأساس حاجة جميع شعوب المنطقة ومكوناتها، وبإمكانهما جعل هذه المنطقة تقف على أقدامها في مواجهة جميع التحديات والتدخلات الخارجية، بل أنها ستكون الكتلة الأهم عالمياً بمقدراتها البشرية وإمكاناتها الاقتصادية، وموقعها الجيوسياسي الأكثر أهمية للعالم، بل أن بإمكان هذه المنطقة تشكيل حضارة إنسانية متقدمة.

   إن المتطلبات الأساسية للوصول إلى هذا التكتل الكبير عديدة، ومن أهمها حرية شعوبها، وحل قضايا القومية، وأن تتخلص من أوهام سيطرة قومية على أخرى وطمس وجودها، إصرارها على بناء دول ترتكز على سيطرة القومية الواحدة واللغة الواحدة واللون الواحد، وعلى رفض الآخر وإبادته وجودياً وثقافياً، وإذابته في بوتقة القومية السائدة بالرغم من أن دول متعددة القوميات والأديان والمذاهب، متعددة ثقافياً واجتماعياً. إن هذه العقيدة قائمة على فكر رجعي وعنصري تجاوزه العالم المعاصر بتوجهه نحو بناء الدول الوطنية الديمقراطية، وأصبح احترام التعددية إحدى السمات الرئيسة له، ومثل هذا التشكيل لن يكون انعزالياً على مستوى العالم، بل سيكون داعماً في اتجاه بناء عالم أفضل يسوده السلم والاستقرار وتلاقح الحضارات المختلفة بين جميع قارات ودول العالم، عالم بدون توجهات عدوانية واستعمارية، عالم أكثر عدالة في العلاقات الدولية القائمة على الاحترام المتبادل وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن بناء شرق أوسط جديد وشرق أوسط كبير المذكور يختلف جذرياً عن الشرق الأوسط الجيد والكبير في المشروع الأمريكي، وهو ينطلق قبل كل شيء من حاجات هذه المنطقة، وسيكون هذا التشكيل أو كونفدرالية الشرق الأوسط تعزيزاً لمقدرات المنطقة وأن نكون نحن – أي شعوب هذه المنطقة – فاعلون في طرح مشاكلنا وغير منفعلين بما يطرحه الآخرون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى