افتتاحيات الجريدة

الصراع في الشرق الأوسط ومآلاته

-1-

   منذ عملية حماس في قطاع غزة في الـ /7/ من أكتوبر، فقد تصدرت آثار هذه العملية جميع الأحداث في العالم، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا بكل ما تحمله من مخاطر على الأمن والسلم الدوليين، وأصبح الشرق الأوسط مركز التطورات العالمية مع عدم الاستهانة بما يجري في أوكرانيا وآثارها، وكذلك في بحر الصين الجنوبي وغيرها من الأحداث العالمية.

   كان من المتوقع أن يتوسع الصراع العسكري في المنطقة، وأن تنضم إليه إيران وكافة أذرعها، ولكن مبادرة الولايات المتحدة والدول الغربية إلى المسارعة في إرسال قوات عسكرية ضخمة إلى المنطقة قد فرمل تدخل تلك القوات المباشر في هذه الحرب، وحسم في الوقت نفسه مصيرها، ومنع نشوب حرب واسعة استعاضت عنها إيران بتحريك أذرعها في المنطقة، فقامت ميليشياتها العراقية بقصف القواعد الأمريكية في سمال وشرق سوريا وفي التنف وقواعدها جنوب كردستان بالصواريخ والطائرات المسيرة، ويقوم الحوثيون بقصف السفن في البحر الأحمر التي تمر من مضيق باب المندب الأمر الذي يعيق الملاحة في الممرات البحرية الدولية، ويؤدي إلى إلحاق الضرر بالعديد من الدول وبقناة السويس، ويقوم حزب الله اللبناني بقصف دائم على مواقع عسكرية في شمال إسرائيل، ترد عليها إسرائيل بقصف مناطق جنوب لبنان.

   غير أنه من الملاحظ أن جميع هذه الأعمال حتى الآن إنما هي أعمال وهجمات محسوبة وتجري ضمن قواعد الاشتباك المعروفة سابقاً بالرغم من قعقعة السلاح والتهديدات التي تنطلق من العديد من الدول، وهي لا تؤثر على مجريات الحرب الإسرائيلية ضد حماس في قطاع غزة، ومع ذلك فهي تشكل خطورة كبيرة على الأمن والاستقرار في جميع مناطق الشرق الأوسط، وتنعكس على الوضع الدولي برمته، وتزيد من حالة التصعيد الموجودة أصلاً بالرغم من أن الدول العربية الأساسية وبخاصة مصر والسعودية تحاول عدم الانجرار إلى الصراع المباشر كما فعلت بعدم انضمامها إلى القوة الدولية التي تشكلت لردع الهجمات الحوثية المدعومة من إيران في البحر الأحمر.

   بطبيعة الحال فإن الوضع في غزة، بل في الشرق الأوسط برمته قد خرج منذ الساعات الأولى من بدء الحرب في غزة من النطاق المحلي وأصبح حالة إقليمية ودولية بامتياز، وكل الجهات والدول تتدخل فيه بالشكل الذي يناسبها، وبحسب قدراتها وطاقاتها ومصالحها، وإذا كانت الحرب في غزة ستضع أوزارها بعد حين قد يطول أو يقصر فإن السؤال الكبير الذي يجول في أذهان الجميع سواء كانوا من المنطقة أو من خارجها هو ماذا بعد حرب غزة؟

-2-

      إن تقديرات جميع المراقبين تشير إلى أن الحرب الحالية في غزة ستنتهي من الناحية العسكرية بإنهاء القوة العسكرية لحركة حماس، ولكن القضة الفلسطينية لن تنتهي، وإنما ستدخل مرحلة جديدة من تطورها، وقد تنضم الحركة رسمياً إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وستكون هناك ترتيبات معينة سواء داخل الضفة الغربية أو قطاع غزة، ولكن كيف سيكون الوضع في المنطقة؟

   إذا انسحبت القوات الغربية التي جاءت إلى المنطقة بسبب حرب غزة، فذلك يعني أن إيران ستفرض هيمنتها على الشرق الأوسط وذلك بسبب تعاظم قوتها ودورها ودور أذرعها، فستصبح سوريا (المنطقة التي يسيطر عليها النظام) ولبنان والعراق واليمن تحت السيطرة المباشرة لإيران، بل أنها ستتمدد إلى مناطق أخرى وبخاصة في دول الخليج، وستضطر الدول العربية الأخرى أما إلى مهادنة إيران أو مواجهتها، وبذلك ستتحول المنطقة إلى ساحة حرب وبؤرة للصراع على مستوى العالم تسودها الحروب المستمرة، ولكن الغرب يعي  هذه الحقيقة جيداً، فهو يدرك أنه بانسحابه على هذا الشكل قد تلقى هزيمة كبيرة في الشرق الأوسط ليس من قبل إيران فقط، إنما من قبل روسيا والصين حليفتا إيران اللتان ستسيطران على المنطقة، وفي هذه الحالة فإن دولة مثل تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي، بل أنها ستتدخل هي الأخرى وتحتل بعض الأجزاء وفقاً لمبدأ العثمانية الجديدة.

   لهذه الأسباب، ووفقاً لقواعد الصراع الدولي المحتدم حالياً في العديد من المساحات فإن جميع الحسابات السياسية تؤكد بأن الغرب لن ينسحب، وأنه يعمل من أجل ترتيبات جديدة لمرحلة ما بعد حرب غزة تأتي في مقدمتها وضع الترتيبات الضرورية لردع التوسع الإيراني وحلفائه الروس والصينيين، ومثل هذا التفكير يمتد إلى معظم دول المنطقة وبخاصة مصر والسعودية وباقي دول الخليج ومعظم الشعوب الأخرى التي تعرف حقيقة المشروع الإيراني التوسعي، وهذا يعني أنه على جميع دول وشعوب المنطقة الاستعداد لمرحلة جديدة من الصراع على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

   إن حجم الحرب الحالية في غزة وما نتج عنها من ضحايا بشرية ودمار كبيرين، وما رافق كل ذلك من تدخلات دولية وإقليمية وانعكاساتها على الوضع الدولي برمته يذهب إلى حد تعتبر فيه هذه الحرب حدثاً مفصلياً في تاريخ المنطقة تترتب عليه آثار وتداعيات كبيرة على جميع الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.

   دولياً سيشعر الغرب بضرورة تعزيز مواقعه في المنطقة لأنها تعتبر إحدى أهم مراكز الصراع الدولي، وخروجه منها يعني أن خصومهم الروس والصينيين والإيرانيين سيملؤونها، وهذا ما لا يقبل به الغرب خاصة أن ذلك يؤدي إلى إضعافه في مناطق الصراع الأخرى، وهكذا الأمر بالنسبة للتحالف الروسي الصيني الإيراني فإنه سيعمل بقوة على منافسة الغرب في المنطقة، وإقليمياً فإن إيران ستستمر في مواقفها من أجل تنفيذ مشروعها التوسعي، هذا المشروع الذي تم تنفيذ قسم كبير منه، وستسعى تركيا من جهتها إلى تنفيذ مشروعها (العثمانية الجديدة) الذي يتضمن السيطرة على العديد من المناطق التي كانت تسيطر عليها السلطنة العثمانية، ومن أهمها شمال سوريا بما في ذلك مدينة حلب، وكذلك الموصل وكركوك وشنكال في جنوب كردستان، وإلى توسيع تدخلها في العديد من الدول العربية وفي القارة الأفريقية، وفي الإطار نفسه فإن الدول العربية الفاعلة، وبخاصة مصر والسعودية ستواجهان المشروعين الإيراني والتركي، والعمل من أجل ترتيب الوضع العربي العام.

-3-

   في خضم هذا الصراع الكبير العسكري والسياسي والاقتصادي ستظهر إلى السطح جميع قضايا المنطقة العالقة، ومن أهمها قضايا الشعوب التي تناضل من أجل حريتها كقضايا لا بد من حلها، وفي مقدمتها قضيتا الشعب الكردي والشعب الفلسطيني بالنظر لحجمهما وتأثيراتهما في جميع الساحات المحلية والإقليمية والدولية، واللتان لن يتمتع الشرق الأوسط بالأمن والاستقرار ما لم يتم حلهما بشكل عادل، كما ستظهر قضايا شعوب أخرى مثل الأمازيغ والبلوش والآذريين في إيران.

   وإذا كانت القضية الفلسطينية ستأخذ طريقها إلى الحل وفق حل الدولتين الذي تشكل حوله اجماع دولي، وتوافق عربي وقبول من قبل منظمة التحرير الفلسطينية في ظل اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وذلك بعد أن تهدأ الأمور في غزة والضفة الغربية في السنوات القليلة القادمة، تبقى القضية الكردية هي الأكبر والأهم والأولى في المنطقة، خاصة أن الشعب الكردي يخوض نضالاً واسعاً بما في ذلك حركات مسلحة قوية، وفي ظل وجود حركات وقوى سياسية مؤثرة، وشعب ينظم نفسه، وهناك أيضاً إقليم جنوب كردستان الذي يتمتع فيه الشعب الكردي بحقوقه القومية في ظل نظام فيدرالي، وستدخل القضية الكردية ضمن الحسابات بشكل كبير، إذ أن كردستان التي تتمتع بمساحة جغرافية واسعة وثروات اقتصادية ضخمة وطاقة بشرية كبيرة، وموقع جغرافي متميز ستطرح نفسها بقوة من أجل إيجاد حل عادل للقضية القومية الكردية، خاصة أن الشرق الأوسط يرتكز على أربعة شعوب رئيسية من بينها الشعب الكردي.

   إن هذا الظرف الدولي والإقليمي والمحلي بتشابكاته وتطوراته ومستجداته تفتح آفاقاً جديدة هامة أمام حركة التحرر الوطني الكردية في عموم أجزاء كردستان، ويجب الاستفادة منه جيداً، ولعل هذا الظرف الجديد والتطور في الأوضاع في المنطقة هو الذي يدفع تركيا وإيران، بل جميع الدول الغاصبة لكردستان إلى شن اعتداءات واسعة ضد الشعب الكردي بهدف إضعاف نضاله، وهي اعتداءات تستهدف نضال عموم الشعب الكردي وليس طرفاً بعينه.

   إن الدول بمواقفها وسياساتها ليست جمعية خيرية تهدف إلى العدل والحق، إنها تعمل قبل كل شيء من أجل مصالحها، وعلى ذلك فإن الشعب الكردي عليه قبل كل شيء الاعتماد على نفسه، عليه أن يحشد طاقاته وينظم نفسه، ويوحد نضاله، أن يضع استراتيجية وتكتيكه الخاص به، وهنا فإن حركة التحرر الوطني الكردية تقف أمام مهام شاقة وصعبة، ولكنها في الوقت نفسه ضرورية وأساسية، ومن أجل إقامة حوار شامل وجاد، وحل الخلافات الموجودة بروح المسؤولية وبشكل ديمقراطي وسلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل جزء.

   إن حركة دبلوماسية نشطة وشاملة على جميع المحاور الدولية والإقليمية والمحلية ضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومع علمنا بالخلافات التي تحيط بعقد مؤتمر قومي كردي شامل، إلا أننا نرى بأن الوقت الحالي يتطلب عقده من أجل تأمين العامل الذاتي لنجاح نضال الشعب الكردي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى