ثقافة ومجتمع

روناهي شكري..صوت شعري خارج مكاتب بيروقراطية الشعر (بذخ الألم في تفاصيل الأمل)

عـبـدالـوهـاب بــيـرانــي*

   الشعر هو أكثر الأجناس الأدبية حساسية مع تعاطيه البنائي المترع بالمعنى الداخلي عبر لغته الثرية التدفق، والقادرة على البوح وهتك المكاشفات السرية في جوهر التعبير الغافي في تمرد اللغة ككائن وكمفردات، فيعمل الشعر على صنع شيفرته الخاصة لحمل المعنى بتقنية خاصة عبر محمول اللغة، وهذا ما ندعوه بالتفرد الإبداعي أو الإبداع ككل، وهو أمر وعر وصعب التوغل في المكاشفة والمشافهة.

   وقصيدة النثر ليست أمراً سهلاً كما يحاول بعض النقاد توجيه التهمة لها، وبعدم شرعية إطلاق التسمية التعريفية الخاصة به كنص شعري، بل يذهبون إلى توصيفه خارج مملكة الشعر، ورغم مرور أكثر من ستة عقود من عمر قصيدة النثر فمازالت هذه القضية مثال جدل، رغم بروز أسماء كبيرة في الكتابة الشعرية النثرية كالماغوط وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد آدم ونازك الملائكة ودرويش وشيركو بيكس وسليم بركات وغيرهم..

   من الاستحالة البحث عن الأب العضوي لقصيدة النثر، وإن كان تحليل الجين الوراثي يقودنا نحو أجناس أخرى ملحمية اسطورية أزاحت الصفات الضعيفة والمقيدة لتنمو على حساب حرية قول ما تشاء ضمن أقانيم وانسجامية وترابط المعنى مع المبنى، فبدأت بالومضة ولم تنتهِ بالملحمية، فهي وإن كانت تنزع نحو التكثيف والاختصار، وتشكيل ضبابية شفيفة فإنها أيضاً قصيدة تعارض القولبة والتقنين وهو أمر نابع من السرد الروائي أو ربما من رحيق الشعر، هو انقلاب ثوري ضد القولبة وضد الوزن، وهي من أمضت عقوداً مفتوحة مع العمق والخيال الأكثر تجنيحاً وتحليقاً..

   ولقصيدة النثر تاريخ مشرف ولها أقلامها وأساطينها هي ليست كتابة استسهالية، حيث فشل الكثيرون امتطاء صهوته حين محاولتهم الجري ضمن مضمار، وسياقات تجربة المهارات.

   والإصدارات الجديدة خلال العقد الماضي تشهد تقدماً لقصيدة النثر لدرجة، كما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على تلاقح التجارب وإعلانها السيطرة أو الهيمنة كنمطية قادرة على التجديد والتميز والأكثر تعبيراً.

   والشاعرة الكردية السورية روناهي شكري التي من خلال اعتمادها على ثقافتين ولغتين تعد إحدى أهم كاتبات قصيدة النثر عبر تجربتها الخاصة في تكوين شخصيتها الشعرية كواجهة تعبير عن قدراتها في التقاط الصورة وتوظيفها في بناء نصها الشعري، وهو أمر له قاعدته في الشمال السوري منذ إطلاق بيان (روانكه_المرصد) في التجديد الشعري عام ١٩٧٠ على يد شيركو بيكس وعبر مقتطفات سريعة لبعص كتاباتها سنحاول التعرف على خاصية تجربتها في كتابة قصيدة النثر المترعة بالعوز إلى فضاء حر كونها امرأة من جهة وكونها تعيش في جغرافية عاشت مخاضات الحرب، فروحها الطافحة بالبحث عن حضن آمن وبهي حملتها أن تجتاز عتبات السرد نحو دلالات أكثر عمقاً وإيغالاً في التوهج والتميز والفرادة..

“في الربيع القادم

سينبت لي جناحان

وقلب أخضر

سأحدق فيه طويلاً

قبل أن أسقط “

   عبر مفردات بسيطة لا تحتاج خوضاً في الشرح والتفسير تخوض الشاعرة شكري عالماً دافقاً من مستقبل بهي حيث سينبت لها جناحان وقلب أخضر مرهونين بالذبول والتلاشي هذه الصورة ربما كان الشعر بأدواته المعهودة وقوالبه الجاهزة بصعوبة من مكان أن ينجز ذاك الإشعاع والصورة وبكل هذا الخيال المجاني.

بوح وتوق للإفصاح عن ماهية امرأة تحاول إعادة تشكيل شخصيتها معلنة عن نضج شهي، فتخفيه عن مسارب الضوء

“تعلمت مؤخراً

إخفاؤه في بهو قبو صغير

كي لا تسحقه

جحافل الضوء”

   وعيها الداخلي يحتم عليها إنجاز أحلامها ليس لإرضاء شريكها بالحياة فهي لا تطلب سوى مساحة ضيقة بحجم بهو ترى وتكتشف الضوء، فلا قيمة للضوء في الخلاء، ولا قيمة للزوايا المفتوحة، ففي الزوايا الحادة تكمن المعضلة وقوانين فيزياء الحياة والضوء. لتحرير عاشقها في غفلة من القواعد وليعانقها طويلاً ليس في بيئة قاحلة بعيدة مترامية الأطراف حيث تخومها أشواك تمارس قيود العزلة، ولا تطمح إلى حقول من فاكهة وضوء وإنما إلى مكان مظلم رطب.. يحكمه السكون.

تعتمد تكتيكاً عميقاً في بنائها المشهدي للصورة، ساعدتها دراستها في اللغة العربية وآدابها في سبر غور اللغة، كما أن شاعريتها وروحها الشاعرة في حالة السرد الشعري وكأنها تنبئنا باستهلال رواية، تمنحنا السطور الأولى من حكاية امرأة شقية وهو ما استطاعت أن تهبها روحها وخيالها

“شراهتي للحروف

تجعلني أرى القصيدة

علبة فارغة

مفتاحها صدأ دوماً”

  هنا تقدم تعريفها للكتابة واللغة، فلا لغة قادرة أن تشبع نهمها لارتكاب القصيدة وامتطاء صهوة اللغة.

  والقصيدة مسكن الشعر لا تصنيف أدبي أو نقدي، فلربما كان هناك في تناول قصيدة النثر كمصطلح بعض التناقض، كيف هي قصيدة وكيف هي نثر معاً

   ربما استطاع الناقد خالد حسين أن يحلل بنية ذاك التناقض فيقول: “الشّعر إما أن يتخذ القصيدة مأوى أو لا يكون، كما لو أنّ القصيدة، وهي كذلك واقعاً وحدثاً، هي التي تمنحُ الكلمة الشِّعرية نعمة الإقامة والتمكُّن والحضور، والبروز، والإشراق، والانخطاف “

“حين تموت الاستعارات

وتبقى الطفولة

سكيناً في ظهري

لا أذكر منها

سوى طريق المدرسة الموحل

وجديلتين كانت أمي

تبدع في رسمهما

كل صباح”

   تختصر سيرة طفولة مازالت تعيشها عبر هذه التركيبة المدهشة حيث تخفي الاستعارات وتكثر من المجاز، وتعيدنا إلى عوالم رواية لم تكتمل.

   هي طفلة لم تراهق بعد ومازالت في طور الأمنيات وربما بعد فوات الأوان تطلب من الرب إعادة تشكيلها فتستمر أدوات النداء تصوير الحالة الشعرية

“أيها البعيد

ها أنا أتمدد

في سقم غيابك

أناكد القدر بحنجرة مثقوبة

وقلب بليد”

  أنثى ناضجة تضخ بالحياة، ونكاد نرى جسدها البض ونيرانها حيث تسكب حنيناً لا يكفي كل أمسيات الاحتراق وهي تحاول لملمة روحها الوثابة نحو انعتاق أكثر وعياً وفسحة لممارسة الحرية عبر إنجاز تشكيلات جديدة أو إضافية للشخصية الشاعرة، حيث مفردات تتماهى، وتحاول هتك ستار المحرم ليس كلحظة شعرية، وإنما تكريس حالة شعرية تستمر كجزء من استحقاقات حرية الجسد والروح والوعي لدى المرأة.

“ثم تخيل

لو أنك اسطوري

بست أرجل

تصفع جبهة الذاكرة

وترسم لها

قبراً طويلاً

ثم تنام”

   ثمة تنوع في رسم إضافات مشهدية وتشريح للرؤى الداخلية لإيضاح صورة المرأة ككل وليس مجرد استظهار لأنثى طاغية هنا أو صرخة أنثى تئن تحت رغبة جسدية أو شهوة اعتمرت دواخلها وإنما هي صورة امرأة واعية تعلم كيف نكأ بها مجتمعها وكيف أن الله أو الطبيعة منحها جمالية الحياة والطبيعة النقية الموازنة والمتسامحة التي منحتها ألوان ونكهات ولذات ورغبات ومن ثم تنتقد في المستوى الآخر تبعات ذلك الجمال ليحولها الرجل إلى ملكيته ويعيد تشكيلها عبر ازميل التحطيم والتغيير فيلجأ إلى نحتها وتختصر كل ذاك العويل بمساحة قبر مظلم ورطب.. قبر أكبر من سرير أحلامها، لتمضي باحثة عن خيمة أو سقف لا مكان له

“أبحث عن سقف مهاجر

وآخر شهقاتي

بقايا دخان

أيها المزروع في ذاكرة الأشياء

كيف أنسى ؟؟”

  ولا يسعني إلا أن أختم بأن المشهدية واللغة الشعرية والصور المتلاحقة والأفكار والرؤى.. تحلم بالمسرات، ربما بالموت أو الخلود في مساحة ضيقة لتكون أسطورة متجددة بحياة نقية كمتصوفة.

  هكذا تنبئنا لغتها النثرية منطلقة كسفينة من ميناء شاعري تجوب بها البحور تموج أشرعتها السابغة متراحة في بحور الخيال، فساهمت في تحطيم الوصايا المرهقة التي أثقلت كاهل الشعرية التي كتمت أنفاس الشعر الكلاسيكي والتفعيلي من بعد، فولدت قصيدة النثر من رحم الرومانسية والواقعية الجديدة، ولدت متمردة وثائرة على كل الأنساق الشعرية، والقوانين العروضية التي حبست صوتها، فنثرت صوتها الشعري شظايا متوهجة، ومتمردة على الحدود والاتفاقيات والبيروقراطية الشعرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى