افتتاحيات الجريدة

الحرب في أوكرانيا والوضع الدولي

العدد (440)

-1-

   إن من يتتبع الحرب في أوكرانيا، مجرياتها وتداعياتها من حيث الاصطفاف الدولي بين مؤيد للموقف الغربي أو مؤيد للموقف الروسي، وبين العديد من الدول الأخرى التي تبحث عن مصالحها وتعمل على تخفيف آثارها على دولها يدرك بسهولة أن هذه الحرب تتجاوز الحدود الأوكرانية، وأنها في أسبابها ناجمة عن صراع دولي وطرفاها المتطوران هما روسيا ودول حلف الناتو بينما حدودها الحقيقية هو العالم كله، كما يدرك بأن زلزالاً كبيراً قد أصاب النظام الدولي الحالي أحادي القطب، وأن تغييرات جوهرية قد تطرأ عليه.

   منذ العام 2014م وعند حدوث انقلاب ضد الرئيس الأوكراني المنتخب والموالي لموسكو بدأت الأزمة الأوكرانية، فوضعت روسيا يدها على شبه جزيرة القرم واعتبرتها منطقة روسية، وطالبت بوضع جديد لإقليم الدونباس ذي الأغلبية الروسية وشجعهم على الانفصال لأنها كانت تتحسب لدخول أوكرانيا في حلف الناتو، أي انتقال الناتو إلى الحدود الغربية لروسيا وما يشكله ذلك من مخاطر على الاتحاد الروسي حيث طالبت القيادة الأوكرانية الجديدة الدخول إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ومنذ ذلك الوقت أيضاً اندفع الغرب كله لمساندة أوكرانيا.

   منذ أكثر من سنة كان واضحاً أن المواقف التصعيدية بدأت تسود العلاقات، وحفلت وسائل الإعلام بالتصريحات الرسمية بأن مواجهة الصين أصبحت المهمة الرئيسية أمام الولايات المتحدة لأنها أصبحت المنافس الرئيسي اقتصادياً لها، وحشدت الولايات المتحدة قواتها في بحر الصين الجنوبي وكامل الشرق الأقصى ودعمت تايوان استعداداً لأية مواجهة مع الصين.

   والآن تتجه الأنظار إلى الصين، وهل ستقوم بتقديم الدعم إلى روسيا في ظل الضغوط والعقوبات الغربية المتعددة الأشكال على موسكو؟ الصين تمارس سياسة براغماتية، هي تدعي عدم الوقوف إلى جانب روسيا، ولكنها في الواقع لا تستطيع ذلك، فهي تدرك أن التهديد الأمريكي كان منصباً أساساً باتجاه الصين التي اعتبرتها الخطر الأول الذي يجب التصدي له، الصين تدرك ذلك تماماً، وتدرك أيضاً بأن الولايات المتحدة بدأت تركز اهتمامها الأول بالهند الصينية وبحر الصين الجنوبي، وتركز قوات ضخمة حول الصين وتستخدم تايوان كمركز هجوم عليها، وتعرف أن المواجهة بينهما آتية، ولهذا فقد بدأت بإطلاق جملة من التصريحات منها: “على الناتو التوقف عن التمدد شرقاً، وأن السياسات الأمريكية منافقة، والمطالبة بوقف الحرب في أوكرانيا وحل مشكلتها سلمياً”.

-2-

   لقد حققت الولايات المتحدة أحد أهدافها الرئيسية بتعزيز دور حلف الناتو. كان الناتو يعاني من مشاكل كثيرة مثل التمويل وبعض المصالح المختلفة بين أعضائه، ودعوات بعض القادة الأوروبيين وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بضرورة اعتماد دول أوروبا على نفسها وعدم الاعتماد على القوة الأمريكية، كما عززت من توحيد الموقف الأمريكي، ومع ذلك هناك بعض الثغرات والمشاكل في صفوف حلفائها، فتركيا وإن كانت تصرح علناً أنها إحدى دول الناتو، وأنها إلى جانب الحلف، وقدمت طائرات الدرون إلى أوكرانيا إلا أنها تحافظ من جهة أخرى على علاقاتها مع روسيا بالرغم من أنها تضع عينها على شبه جزيرة القرم باعتبارها من ممتلكات السلطنة العثمانية وأن سكانها من التتار، إنها تمارس سياسة اللعب على الحبلين التي تجيدها القيادة التركية، خاصة وأنها تعاني من مشكلة هامة مع كل من روسيا والولايات المتحدة في سوريا، وبالتأكيد سيكون للوضع في سوريا دوراً في الموقف التركي، وهناك بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا على سبيل المثال ترفض الامتثال للعقوبات على شراء النفط والغاز الروسيين لأنها الأرخص أولاً، ثم أنه لا يمكن توفير البديل خاصة أن أسعار الوقود في العالم زادت عالمياً إلى الضعف وزدات أسعار المواد الغذائية، وهناك إسرائيل المحتارة والمترددة في موقفها، وهناك دول مثل السعودية والإمارات وباقي دول الخليج أصبحت تنسحب في إظهار مواقفها الحقيقية، وتتوجه إلى الصين وتحاور روسيا حفاظاً على مصالحها خاصة وأنها مع إسرائيل تمتعض من الاتفاق النووي مع إيران الذي يبدو أن الولايات المتحدة ماضية إلى التوقيع عليه دون مراعاة مصالح العديد من حلفائهاوفي مقدمتها إسرائيل والسعودية والإمارات والعديد من دول الشرق الأوسط.

-3-

   منذ سنوات كان يثار سؤال سواء في وسائل الإعلام أو في العديد من المناقشات السياسية فحواه هل يمكن أن يبادل الغرب وروسيا سوريا بأوكرانيا؟ وهو سؤال له دلالته الواضحة، ومورست مثل هذه السياسة في سوريا حيث تبادلت روسيا وتركيا بعض المناطق السورية، وقد حدثت وتحدث مثل هذه المبادلات في مناطق أخرى من العالم وهي مقايضات لا أخلاقية ولا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب وحريتها، بل تخدم مصالح الدول الكبرى.

   هل سيكون للحرب في أوكرانيا تأثير على الوضع في سوريا عامة، وعلى وضع الإدارة الذاتية خاصة، إذ تقف سوريا بشكل مكشوف مع الموقف الروسي؟ الروس موجودون في سوريا وكذلك التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وخلال استعداداتها للهجوم العسكري على أوكرانيا قامت روسيا بتعزيز وجودها في البحر المتوسط، وفي مينائي اللاذقية وطرطوس وقاعدة حميميم الجوية وفي مناطق أخرى من الأراضي السورية، إضافة إلى أن روسيا تعتبر سوريا قاعدتها الرئيسية في المنطقة لتثبيت وجودها كقوة عالمية، ووفقاً لقواعد الصراع خاصة في ظروف المواجهة المحتدمة الآن بين الطرفين فإنه من المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بالمقابل بتعزيز وجودها العسكري في سوريا وإنما بمواقعها في جميع أنحاء العالم، وبناء على ما تقدم لن تشهد سوريا انفراجاً في وضعها الداخلي وستستمر أزمتها إلى مدى غير معروف، وستتقلص إمكانية الحوار بين كل من النظام والإدارة الذاتية.

-4-

   في ظل مثل هذه الحروب التي تشترك فيها العديد من الدول تتشكل فوضى علاقات دولية، ويضعف الالتزام بالقانون الدولي، وفي هذه الأحوال كثيراً ما تذهب في مهب الريح العديد من الشعوب المستضعفة والدول الصغيرة التي لا تمتلك إرادة المقاومة اللازمة والتي تعاني من المشاكل، وكما يقال في التعبير العامي (تذهب بين الأرجل)، ومن جانب آخر تستفيد بعض الشعوب والدول التي توفر العوامل الذاتية الضرورية والمقاومة اللازمة لصمودها.

   وبغض النظر عن الوقوف إلى جانب أي من الطرفين الروسي أو الغربي فإنه ستكون لهذه الحرب تداعيات كبيرة ومهمة سوف تنعكس على الوضع الدولي، بل أن هذه الحرب ستكون بداية التغيير الفعلي لتقسيم جديد للعالم، فأوروبا التي لم تعرف الحروب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أي منذ /77/ عاماً تذوق طعم الحروب وآثارها من جديد، بل أن الخطر بدأ يقترب من عرينها حاملة العديد من المخاطر إليها، ولا بد أن تفكر ملياً في التطورات القادمة، وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسي ماكرون قبل أكثر من سنتين عندما قال بأن الناتو لم يعد يشكل ضماناً لأمنها، وعليها أن تفكر بالقوة الأوروبية الخاصة وعدم الاعتماد على قوة واشنطن.

   إن قوة الردع النووية التي تمتلكها العديد من الدول تنمي تطلعات بعض الدول إلى التمدد والاستقواء بهذا السلاح من أجل تحقيق طموحات غير مشروعة مثل التوسع وضم أراضي دول أخرى بمختلف الحجج، مثل الصراع على الخليج (الفارسي – العربي). غير أن التغيير الأكبر سيكون في طبيعة النظام الدولي، إذ من المتوقع أن تتشكل عدة تجمعات أو تحالفات دولية، ولن يبقى الحلف الأطلسي هو الحلف الوحيد، ومن الممكن أن تكون بعض هذه التحالفات اقتصادية وليست عسكرية.

   إن هذه الحرب قد شكلت إيذاناً بتشكل هذه التحالفات، وهذا يعني إعلان نظام عالمي متعدد الأقطاب وحتى إحداث تغييرات واسعة في نظام الأمم المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى